السبت، 1 ديسمبر 2012

في انصاف الصحوة

بتّ اؤمن في الفترة الأخيرة، أكثر من أي وقتٍ مضى، بأنه لا سبيل للخروج من الدائرة المفرغة التي يحبسنا داخلها صراع التيارات المستمر، وسعيها المحموم للانتصار للذوات وتحقيق المكاسب الحزبية ولو على حساب المصلحة العامة، الا بمراجعة جادة تنسف الأوهام والمغالطات التي تحيط ببعض تصوراتنا عن التحولات التي مرّ بها المجتمع في تاريخه الحديث

في حقبة الثمانينات، مرّ المجتمع السعودي بأحد أهم وأخصب التحولات التي ساهمت في تشكيل وعيه في مرحلة مهمة، وتركت أثرها في كل مناحي حياته، وتزامن ذلك مع نشوء ما سمي بالصحوة الاسلامية. يرى ستيفان لاكروا في كتابه "زمن الصحوة" أن ذكاء الصحوة يكمن في قدرتها على هز الوعي المجتمعي بشكل يكاد يكون جذريا، وتكوينها لحركة فكرية -اجتماعية، اعتمادا على مؤسسات الدولة نفسها خصوصا في قطاع التعليم. وقد استطاعت في فترة قصيرة أن تصبح عنصرا محوريا في النسيج الاجتماعي السعودي

وقبل أن أدخل في الحديث عن الصحوة ، أود أن اشير الى حالة الجمود والتبلد الذي أصاب المشهد الفكري والذي أعاق النمو الحضاري للمجتمع، بل لعل السعودية تعدّ البلد الوحيد في العالم، الذي لا زالت صراعات التسعينات تتكرر فيه بذات زخمها. ولفترة طويلة ارتضى الكثير من أطراف الصراع من النخب الدينية والتحديثية اعادة تمثيل أدوارهم وعدم مراوحة أماكنهم أو تطوير رؤاهم في تناول ذات القضايا والمسائل، خاصة مسائل المرأة والتعليم والحريات وغيرها. وان جزمنا بحدوث نقلة أو تطور في طرح بعض هذه القضايا، كتحول النقاش حول قيادة المرأة للسيارة من منظور ديني يقضي بتحريمه الى منظور اجتماعي يحذر من آثاره السلبية على المجتمع، الا أن مثل هذه التغيرات في الطرح تظل بسيطة بحيث تقصر عن حسم الجدل، ناهيك عن تهيئة الوعي المجتمعي الكافي الذي يحرر القضية من تداولها بأدوات الصراع القديمة ذاتها

واذا كان الفكر السلفي التقليدي قد شهد عدة محاولات وقراءات نقدية جادة من داخل التيار نفسه، كان أبرزها على يد ما سمي بالخطاب الاصلاحي أو التنويري والذي تصدى له باحثون شرعيون على قدر من التمكن من أمثال عبدالله المالكي ورائد السمهوري وسليمان الضحيان، فانني أستغرب أن المشروع الفكري الليبرالي لم يحظى بفرصة مماثلة، مع أنه الاشد حاجة للاصلاح خاصة وهو يحمل بذور هدمه بداخله

وعودة الى تيار الصحوة، فقد اعتدنا أن يلقي المثقفون والمتصدرون للاعلام الليبرالي باللائمة على الصحوة حين الحديث عن الظواهر السلبية المعيقة للحداثة أو المستغرقة في التخلف. والحقيقة ان هذا الاتهام يعدّ جائرا حين يطلق على عواهنه بهذا الشكل، وهو محاولة تبريرية لتحرير المثقف من تحمل مسؤولية التنوير الاجتماعي. وتظل الحقيقة المرّة التي يحاول هذا المثقف الهروب من مواجهتها عبر اتهامه للصحوة بالتخلف، هي فشله في تقديم وصناعة خطاب تنويري تطويري مميز لا يصادم قيم المجتمع. بغض النظر عن موقفي الشخصي من الصحوة، أعترف بأنها نجحت في تقديم مشروع فكري أعمق واقوى تأثيرا على المجتمع من أي خطاب محلي أو خارجي، وكان لها ايجابياتها في عدد من النواحي الذي لا يحب الاعلام الليبرالي التطرق اليها منها:

أ- التعامل مع العادات والتقاليد

برغم تضخيم المثقف الليبرالي لحكاية "خلط  العادات والتقاليد بالاسلام"، وتلبيس هذه التهمة للصحوة كوسيلة لتمرير أطروحاته وأفكاره بذريعة أنه يسعى "لفصل العادات والتقاليد عن الاسلام الحقيقي". الا أنه لا يمكننا انكار حقيقة أن التيار المحافظ وقف في بداياته ضد العادات والأعراف وحاربها بضراوة حين كانت تعارض مفهومه للاسلام، وعمل على ازالتها ونجح في كثير من الجوانب. فنجد مثلا أنه قضى على عادات مجتمعية انتشرت في بعض مناطق المملكة اتسمت بالتساهل سواءً في حجاب المرأة أو اختلاطها بالرجال من اقاربها، وعمل التيار الديني على فرض الانفصال بين الرجل والمرأة، حتى تأثرت تصاميم المنازل والمباني والدوائر الحكومية بهذا الفصل

لا أذكر هذا التغير هنا بصفته ايجابي أو سلبي، بل للدلالة على أن الصحوة لم تترضخ للعادات والتقاليد وواجهتها حين اضطرت لذلك واستطاعت أن تصححها. الغريب أنك تجد المثقف الليبرالي تارةً يتباكى على هذه العادات ويصف الصحوة بتشويه المجتمع، وتارةً أخرى يرميها بخلط الاسلام بالعادات والتقاليد

ب - مواجهة انحراف الشباب

أنتجت الطفرة في الثمانينات حالة من البذخ والرفاهية، كان أحد أكبر سلبياتها التي ظهر فورا على المجتمع هو انحراف الشباب نتيجة توفر المال وأوقات الفراغ التي تم استغلالها بشكل سلبي. وكان للصحوة دور فعال في الأخذ بيد هؤلاء الشباب وتوجيههم واعادة تأهيلهم عبر محاضنها وملتقياتها، بل ان الصحوة سهلت اعادة دمج هؤلاء في المجتمع ووفرت لهم الوظائف فانخرط بعضهم في الهيئة وآخرون في مجال الوعظ، وساهمت في تقبل المجتمع لهم رغم ماضيهم. هذا الجهد الصحوي يستحق الشكر اذ وفرت على الدولة الكثير من الأموال التي كانت ستصرف لاعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، كما حمت المجتمع من آثارهم السلبية

جـ- المرأة

ورغم أن المرأة اكبر قضية تعاير بها الصحوة اذ يرى البعض أنها ساهمت في شل حركة المرأة وحبسها، الا ان التيار الديني الصحوي قدّم في الحقيقة في بداياته رؤية حضارية لدور المرأة في المجتمع. فلم تعارض الصحوة في الأصل عمل المرأة خارج المنزل كما يردد المثقفون لسنوات حتى تم ترسيخه في وعينا وحتى انطلى الكلام على التيار الديني نفسه الذي بات مؤخرا يردد عبارات يفهم منها رفضه لعمل المرأة دونما حاجة وتفضيل بقاءها في البيت

يشير الكاتب عبدالعزيز الخضر في كتابه "السعودية: سيرة دولة ومجتمع" الى دور الشيخ سلمان العودة الريادي في الثمانينات والتسعينات في تشجيع عمل المرأة حتى أنه قال في أحد خطبه المسجلة يدافع فيها عن موقفه من عمل المرأة: "اننا حين ننصح المتدينات بترك الدراسة أو ترك مجالات العمل فاننا نسمح لفئات أخرى بأن تنمو وتتوغل داخل المجتمع ونضع سداً منيعاً أمام العنصر الوحيد الذي يمكن أن يساهم في تحجيم الشر والفساد"

والحقيقة أن المجتمع السعودي بطبيعته المحافظة في مرحلة ما قبل الصحوة كان ضد عمل المرأة خارج بيتها، لكن تيار الصحوة كان موقفه ايجابيا وغيّر نظرة المجتمع وشجع على عملها في المجالات المعزولة عن الاختلاط، ومشكلة الصحوة مع عمل المرأة لم تكن موقف معارض كما يطرحها التيار الليبرالي بقدر ما كانت مشكلتها في بيئة عمل المرأة وخلوها من الاختلاط

من الظريف أيضا - كما يذكر الكاتب عبدالعزيز الخضر في كتابه - ان الصحوة اقرّت رؤية المخطوبة في خطوة تعتبر تقدمية اذ كان العرف الاجتماعي يقتضي عدم رؤية المخطوبة أبدا

*                  *                *                

أخيرا أقول بأنني أكتب هذه التدوينة لنفسي أولا قبل غيري، ثم لأبناء جيلي (التسعينات وأواخر الثمانينات) ممن تفتح وعيهم بعد بدء تراجع ملامح الصحوة وضعف خطابها خصوصا مع اعتقالات التسعينات لبعض رموزها، ثم ما تلاها من هجمات سبتمبر وبداية ما سمي بالحرب على الارهاب. كل هذه الأحداث صاغت تصوراتنا عن الصحوة -خاصة وأننا لم نعاصرها وهي في أوج شعبيتها- الى أحد اتجاهين: اما المدح والتمجيد المبالغ به واعتبارها طريقة الاسلام الصحيحة ونهج الفرقة الناجية، أو الذمّ الجائر الذي يخلو من أي انصاف أو موضوعية. التصالح مع فترة الصحوة - التي تعد أحد أبرز مراحل التجربة الفكرية السعودية - بكل سلبياتها وايجابياتها سيساعدنا لتفكيك عقلية الصراعات في المجتمع، وتجاوز لغة الاستقطاب الحادة بين التيارات، وادارة خلافاتنا الفكرية بقدر أكبر من النضج والعقلانية