الأربعاء، 29 مايو 2013

قصة وأغنية: منزل الشمس المشرقة





أغنية (منزل الشمس المشرقة) من الفلكلور الأمريكي هي احدى الأغنيات الخالدة في وجدان التاريخ الانساني. حظيت هذه الأغنية بدراسات وأبحاث تاريخية واجتماعية مطولة قلما حظيت بها أغنية أخرى، وأعيد تلحينها وغناءها مرارا وعاشت أكثر من كل من غنوها رغم سوداويتها، واحتلت موضع متقدم ضمن الأغاني المفضلة في كل الأزمنة في تصنيف مجلة رولنج ستونز الشهيرة

كانت بالأصل قصيدة شعبية رائجة في الجنوب الأمريكي، لطالما غنتها النسوة لأبناءهم الصغار بألحان كئيبة تلائم سوداوية كلماتها، لا يعرف كاتبها ولا تاريخ كتابتها، ويقول بعض باحثي الموسيقى ان الأغنية الأصلية تعود للقرن السادس عشر، وهي عن حي سوهو بلندن، وأن المهاجرين الانجليز أتوا بها الى أمريكا حيث تم تغيير بعض كلماتها ولحنها، وأصبحت تحكي عن نيو أورليانز. لكن دراسات أخرى تقول أن الأغنية بالأصل عن نيو أورليانز وان كان لا يعرف لها تاريخ

تم تناقل الأغنية عبر سنوات شفويا بشكل تقليدي، ولعل أقدم تسجيل رسمي وجد لها كان النسخة التي قام بأداءها الموسيقيان الريفيان توم كلارنس آشلي وجوين فوستر عام 1933، وقال توم آشلي أنه تعلم الأغنية في صغره من جده اينوك آشلي

فيما بعد، قام باحث الموسيقى والفلكلور آلان لوماكس مع والده الموسيقي جون ايه لوماكس، والذي كان يعمل آنذاك قيّما على ارشيف الأغاني الشعبية الأمريكية التابعة لمكتبة الكونغرس، بتسجيلها كأغنية فلكلورية. ونظرا لتسجيلها بدون حقوق ملكية فقد تغنى الكثير من الفنانين والفرق الموسيقية بها عبر تاريخها المديد، وممن غناها الفنان الشهير بوب ديلان، وأسطورة الجاز الأمريكي نينا سيمون، وفنانة موسيقى الكونتري الجميلة دوللي بارتون، وصاحبة الصوت الذهبي جودي ميلر، وغنتها في السبيعنيات فرقة غنائية اسمها "سانتا ازميرالدا"، وفي 2002 أعادت فرقة "ميوز" الانجليزية غناءها، لكن أشهر أداء لها كان من غناء فرقة أينمالز في عام 1964، التي أضافت لها بعض التجديد الموسيقي دون أن تفقد اللحن روحه الجنوبية

تحكي كلمات الأغنية قصة انحراف وضياع، ولعل أبسط شرح لها ما ذكره أحد مغنيها من أنها عن (حياة سارت بشكل خاطئ). وقد أقيمت عدد من الدراسات والأبحاث لتحديد موقع (منزل الشمس المشرقة) في نيو أورليانز بولاية لويزيانا، وقيل أن "المنزل" كلمة مخففة استخدمت لوصف مكان تعالج فيه بائعات الهوى والمومسات من مرض الزهري، ولا تخرج الكثيرات منه أحياء. وقيل أنه بالأصل كان بيتا للدعارة تديره امرأة اسمها (لوسولي ليفان) أي (الشمس المشرقة) بالفرنسية. وقيل أيضا أن (منزل الشمس المشرقة) تورية استخدمت لاخفاء هوية سجن شهير بنيو اورليانز وأن الأغنية تروي قصة فتاة قتلت أباها السكير الذي كان يضرب زوجته، وحكم عليها بالسجن المؤبد، وكانت تجلس في زنزانتها تشاهد من نافذتها شروق الشمس كل صباح. يرجح هذه الرواية الصور القديمة للشمس التي كانت ترسم على بوابة سجن النساء في نيو أورليانز، بالاضافة الى عبارة (لأضع الأصفاد من جديد) المذكورة في الأغنية، كما أن هذه الأغنية في الأدبيات التراثية ارتبطت بالنساء اللاتي كن يرددنها دون الرجال، لذا اعُتقد أنها تروي معاناة احداهن. لكن آثار التنقيب في مركز المدينة القديمة في 2005 أثبت وجود دلائل عن فندق كان موجودا في شارع كونتي بالقسم الفرنسي من المدينة، كان مشهورا بفتيات الليل قبل احتراقه عام 1822 م، قيل أن هذا الفندق هو المنزل المذكور في الأغنية التراثية. المؤكد أن (منزل الشمس المشرقة) كان مكانا للفساد والانحراف و(كان سببا في تدمير حياة أكثر من صبي بائس) كما تقول كلمات الأغنية    

 الأغنية الساحرة من أداء فرقة أنيمالز الشهيرة وبصوت الفتى المشاغب اريك بوردون





 ترجمة الأستاذ أحمد خالد توفيق للأغنية الى العربية

ثمة بيت في نيو أورليانز
يسمونه (الشمس المشرقة)
كان سببًا في تدمير حياة أكثر من صبي بائس
يا رباه.. أعرف أنني كنت واحدًا من هؤلاء..
There is a house in New Orleans
They call the Rising Sun
And it's been the ruin of many a poor boy
And God I know I'm one
 أمي كانت خيّاطة
خاطت لي سروالي الجينز الجديد.
وأبي كان مقامرًا
هناك في نيو أورليانز
 My mother was a tailor
She sewed my new bluejeans
My father was a gamblin' man
Down in New Orleans
 الآن كل ما يريده المقامر
هو صندوق ثياب وحقيبة
ولا يشعر بالرضا
إلا عندما يكون ثملاً...
 Now the only thing a gambler needs
Is a suitcase and trunk
And the only time he's satisfied
Is when he's on a drunk
 أيتها الأم
أخبري أطفالك ألا يفعلوا ما فعلت أنا..
لا تقضوا حياتكم في الخطيئة والتعاسة
في بيت الشمس المشرقة
 Oh mother tell your children
Not to do what I have done
Spend your lives in sin and misery
In the House of the Rising Sun
 لقد وضعت قدمًا على رصيف المحطة
والقدم الأخرى داخل القطار..
أنا عائد لنيو أورليانز
لأضع الأصفاد من جديد..
 Well, I got one foot on the platform
The other foot on the train
I'm goin' back to New Orleans
To wear that ball and chain
 ثمة بيت في نيو أورليانز
يسمونه (الشمس المشرقة)
كان سببًا في تدمير حياة أكثر من صبي بائس                                  
وأعرف أنني كنت يا رباه واحدًا من هؤلاء..
 There is a house in New Orleans
They call the Rising Sun
And it's been the ruin of many a poor boy
And God I know I'm on


الثلاثاء، 21 مايو 2013

قراءة في كتاب "بالخلاص يا شباب" للمفكر السوري ياسين الحاج صالح




"لقد يئستُ كثيرا وعميقا جدا، وبينما أضحت آمالي قليلة، بتُّ منيعا على اليأس"

بهذه العبارة المقتبسة من الكاتب ابدأ خواطري عن كتابه الذي أهداه الى روح والديه. والدته "التي لم تطق أن يسجن ابنها، ثم ابنان آخران، وماتت ولم يودعوها"، ووالده الذي "لم يتقبل أن أعمل كاتبا، مات وفي نفسه أن يراني أقوم بعمل أكثر هيبة" كما يقول الكاتب.



 عرفتُ ياسين الحاج صالح مفكرا سياسيا من الطراز الثقيل عبر مقالاته التي اعتدت تتبعها في المواقع الالكترونية، وزاد تقديري لما يكتب مع اندلاع الثورة السورية ومواكبته لها بمقالات شبه اسبوعية اعتاد الكثير من الشباب المهتم انتظارها. كانت الفرصة مؤاتية لمثقف ومناضل سياسي قضى سنوات طويلة في السجن الى أن يسارع كغيره من السياسيين والمثقفين لتصدر المشهد الثوري المعقد، والزج بنفسه في اللقاءات والحوارات التلفزيونية، والظهور كأحد قيادات المعارضة أوالمشاركة في الائتلاف الوطني. لكنه اختار أن يبقى "على الهامش" ويتفرغ لتقديم انتاج فكري يواكب الثورة ويناقش ما يتصل بها من مشكلات وقضايا وهو دور وجده - كما يذكر في أحد الحوارات الصحفية- مناسبا له. هكذا يعيش حكيم الثورة السورية الآن في مكان ما داخل سوريا، ووسط الدمار والدماء، يعايش وقائع الثورة من قلب الحدث، ويواصل بشكل شبه اسبوعي نشر تأملاته وأطروحاته النقدية عن الثورة ليساهم بقلمه وفكره في صنع ملامح سوريا جديدة

"في السجن كانت ثورتي ، في السجن تحررت"

في هذا الكتاب تجربة مختلفة عن السجن لم نعتد عليها في الكتابات العربية. الكتاب كما يقول كاتبه "لا يندرج ضمن أدب السجون، ولا هو دراسة اجتماعية، أو سيرة ذاتية، ولا هو بيان حقوقي، بل هو خليط من هذا كله". في هذه التجربة نجد نظرة مختلفة للسجن، نظرة أكثر تصالحا وأكثر حميمية معه، فهو لا يتوانى عن وصف السجن بـ"وطنه" في أماكن كثيرة من الكتاب، وهو الى هذا يتحدث عن الانعتاق الذي منحه له السجن .. انعتاق من الذات ومن العقيدة الأيديولوجية ومن الحزبية ومن المثالية والتصنع ومن كل شئ. في السجن مات ياسين الحاج الشاب اليساري الحزبي الذي اعتقل وهو في العشرين من عمره كي يحيا ياسين الحاج الكهل والمفكر السياسي الذي ألّف هذا الكتاب. بدا ياسين ممتنا لوجوده في السجن الذي أراحه كما يقول من اتخاذ قرارات مصيرية في حياته ومن مواجهة خيبة عاطفية ودراسية كان يعيش بوادرها قبل الاعتقال، بل انه في احدى الفقرات يرى نفسه محظوظا لسجنه وهو ما اعتبره زملاءه السجناء جنونا، واعتبره ياسين نفسه اجابة غير سوية تدلل على تشوهه الداخلي. يبرر ياسين كل هذه الحميمية والتصالح العجيب مع سنوات السجن أنه لا خيار آخر له، فاما أن يتصالح مع التجربة ويرى ايجابياتها ويتقبل سنوات حياته التي سرقت منه كي ينقذ السنوات التي تبقت له، واما أن يعيش ناقما معذبا حاقدا ما بقي من عمره. يساعده على هذه النظرة المتسامحة مع السجن أنه كما اعترف بنفسه أنه لم يعذّب كثيرا ولم يخرج بأذى جسدي دائم ولا بأذى نفسي ظاهر، ويرثي لحال رفاقه مثل هيثم الخوجة وآخرين من الذين لم يكن حظهم مثل حظه، خاصة ممن توفوا بعد فترة قصيرة من خروجهم بسبب التعذيب الذي أصابهم بأمراض مزمنة وترك أثره المميت على أجسادهم

أنصف ياسين النشطاء الاسلاميين الذين شهد ظروف سجنهم بشكل لا يتوقع من يساري مثله معتد بيساريته، وتجرد من أي محاولات للانتصار للنفس أو الفكر وهو يقرّ أنهم كانوا الأكثر تعرضا للاضطهاد ولصنوف الأذى والتعذيب في سجون حافظ الأسد، وتمنى أن يتفرغ بعضهم لكتابة تجاربهم في السجن. ومن الانطباعات التي علقت بذاكرتي ما ذكره الكاتب من أن السجين الاسلامي أو حتى المؤمن بصفة عامة وان لم يكن توجهه الحزبي اسلاميا كان أقدر على تحمل معاناة السجن ومعايشته والنجاة منه، لأنهم يمتلكون مصدر قوة يفتقدها الآخرون -بما فيهم ياسين نفسه- وهذا المصدر هو التدين الروحي. فلا سجان - كما يقول الكاتب يستطيع مهما حاول أن يمنعك من اللجوء الى ايمانك وقت المحن واستمداد القوة من هذا اللجوء. 

قد يكون هذا الكتاب مملا ومخيبا لآمال من يريد أن يقرأ عن خفايا وأسرار السجون الأسدية، ويبحث عن صور المعاناة والألم وحكايات التعذيب. فهذا الكتاب أقرب ما يكون في أغلب صفحاته الى كتاب فلسفي وجودي يصور تجربة ذاتية انسانية بكل انفعالاتها وتحولاتها

يقول ياسين الحاج صالح أن التذكر واستحضار تجربة السجن صعب، وأنه ككل السوريين ينفر من ذلك. لكنه يدرك أيضا أن النسيان ممنوع بل هو خيانة لنفسه ولرفاقه الذين ماتوا في السجن أو بعيد خروجهم منه، وهو خيانة للأمهات والآباء الذين ماتوا وهم ينتظرون الافراج عن ابناءهم، وهو خيانة للسوريين ولسوريا، فملامح تجربة كهذه لابد من أن توثق للأجيال القادمة، ولهذا قرر أن يكتب ويكتب ويكتب

الثلاثاء، 19 مارس 2013

خطابات المشايخ .. والاصلاح المنشود



تحذير
اذا كنت ممن يرفعون شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وترى أنه ينبغي علينا أن نكون يداً واحدة ما دام الهدف واحدا، وأن أي خطاب ينتقد الداخلية أو يطالب بتحسين الأوضاع يمثلك .. فلعلك تفضل أن تتوقف عن القراءة عند هذا الحد، لأن هذه التدوينة ليست موجهة لك
*                         *                           *                                      
    
في الأيام الماضية وجه الشيخ سلمان العودة خطابه المفتوح للداخلية، والذي كان قد وعد به قبلها بفترة. وتلاه الشيخ عوض القرني الذي قرر نشر خطاب كان سبق وأرسله الى ولي العهد الأمير نايف قبل سنتين. ثم ظهر الشيخ ناصر العمر على قناة المجد ليتحدث عن خطاب مناصحة وقّعه 70 شخصا قبل عشر سنوات غابرات مغبرات، وتم ارساله للديوان الملكي ولولي العهد ووزير الداخلية وأمير الرياض، ويناقش هذا الخطاب كما يذكر العمر اشكاليات تتعلق بـ 14 ملف منها -على سبيل المثال- القضاء الشرعي والأسرة والمرأة وحقوق الانسان الشرعية والاعلام والثقافة والأمن الفكري 

ركّز خطاب العودة على قضية المعتقلين تعسفيا، وقدّم حلا مؤقتا يناسب السياسي ويوفر عليه الكثير من وجع الرأس الذي سببه له مطالب الاصلاحيين، فقد طالب باغلاق ملف الاعتقال التعسفي والافراج عمن لم تثبت عليهم التهم وتعويضهم، والابقاء على من صدرت ضدهم أحكام شرعية قطعية. وباستثناء اشارته العابرة لاستقلال القضاء وفك ارتباطه بالداخلية، لم يتكلف العودة أي جهد في التركيز على أساس مشكلة الاعتقال التعسفي واكتفى بمعالجة أعراضه 

وبالمقابل، كان خطاب القرني الأقدم زمنا ورؤية أشمل في تناوله لقضايا أكثر، وان كان أخف في لهجته من خطاب العودة، ولعل السبب هو أن الخطاب لم يكن معداً لنشره أمام الرأي العام بعكس خطاب العودة. اكتفى الخطاب في بعض فقراته بمطالبة السياسي بالنظر في هذا الملف أو ذاك بعد سرد المشكلات، وقدّم في فقرات أخرى بعض الحلول مثل تطوير آليات المشاركة الشعبية السياسية، وكذلك مبادراته فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. كما تحدث عن حقوق المواطنة للشيعة وطالب بدمجهم في المجتمع بدلا من المعالجات الأمنية

القاسم المشترك بين هذه الخطابات، باستثناء خطاب العمر الذي لم أجده منشورا بعد، وبالتالي يتعذر نقد محتواه ومضمونه، هو انخفاض سقف مطالبها، واكتفاءها بذكر المشكلات ثم عرض الحلول التي تناسب السياسي، وتجنب تلمس أسس هذه المشكلات وجذورها، وهي الجذور التي يمكن أن يهدد اجتثاثها بعض صلاحيات السياسي ومكتسباته. هذه الطريقة في عرض الأزمة والحل لا تستفز السياسي، كما أنها تجذب الكثير من أفراد الشعب من غير المؤدلجين أو المسيّسين، وهو ما يمكن ملاحظته من التفاعل الكبير الذي حظي به خطاب العودة مثلا. لكنها على المدى البعيد ستضر بالخطاب الاصلاحي، خاصة مع انجرار الكثيرين بما فيهم بعض الناشطين لمحاولة صبغ هذه الخطابات بصبغة اصلاحية ما دامت تخاطب الداخلية وتطالب بحقوق المعتقلين 

في مقاله "كيف كسب الاصلاح جولته: محاكمة حسم نموذجا"، يذكر عبدالله العودة أن الخطاب الاصلاحي استطاع أن يقدّم اجابات وحلول جذرية للكثير من القضايا التي تشغل الرأي العام. فمشاكل السكن والبطالة مثلا سببها الفساد الاداري والمالي، وهذا الفساد لا يمكن اجتثاثه بدون انتخاب مجلس الشورى والرقابة على المال العام عبر مؤسسات شعبية وعبر السعي لتأسيس دولة الحقوق والمؤسسات. كما ربط حل قضية المعتقلين تعسفيا بمطلب سيادة القانون واستقلال القضاء، وهذه المطالب وغيرها هي التي ترسم معالم مشروع الاصلاح السياسي الذي دفع أصحابه سنوات من أعمارهم في السجون والزنازين المظلمة ثمنا له 

هنا تكمن خطورة اعتبار خطابات المشايخ التي تهيئ الجماهير للقبول بالحلول المؤقتة والسريعة دون تلمس جذور الأزمة جزءا من الخطاب الاصلاحي، خاصة اذا ما ترافقت مع استجابة السياسي لبعض هذه المطالب وهو ما لا أستبعده في الفترة القادمة. فهي من جهة تنفّس عن الاحتقان الشعبي المتراكم، والذي زادت حدته بعد الاعتصامات الأخيرة ومحاكمة حسم. وتخفض سقف مطالبات الحراك الحقوقي والاصلاحي، وتساهم في تبديد الزخم الذي بدأت تحظى به هذه المطالبات من جهة أخرى

خطاب العودة ومناصحات القرني والعمر وغيرهم كلها جهود لتحريك المياه الراكدة تذكر فتشكر، لكنها ليست خطابات اصلاحية، ولا ينبغي أن يتم تصويرها كذلك كي لا نقبل بسقف أضيق من طموحاتنا ومطالبنا ونعود لمرحلة كنا قد تجاوزناها. وكما قال سطام الرويس "هناك فرق بين أن يمثلك خطاب العودة وبين أن تنضوي تحت خطاب الحامد .. ولا يمكن أن تضع قدما هنا وأخرى هناك"

السبت، 1 ديسمبر 2012

في انصاف الصحوة

بتّ اؤمن في الفترة الأخيرة، أكثر من أي وقتٍ مضى، بأنه لا سبيل للخروج من الدائرة المفرغة التي يحبسنا داخلها صراع التيارات المستمر، وسعيها المحموم للانتصار للذوات وتحقيق المكاسب الحزبية ولو على حساب المصلحة العامة، الا بمراجعة جادة تنسف الأوهام والمغالطات التي تحيط ببعض تصوراتنا عن التحولات التي مرّ بها المجتمع في تاريخه الحديث

في حقبة الثمانينات، مرّ المجتمع السعودي بأحد أهم وأخصب التحولات التي ساهمت في تشكيل وعيه في مرحلة مهمة، وتركت أثرها في كل مناحي حياته، وتزامن ذلك مع نشوء ما سمي بالصحوة الاسلامية. يرى ستيفان لاكروا في كتابه "زمن الصحوة" أن ذكاء الصحوة يكمن في قدرتها على هز الوعي المجتمعي بشكل يكاد يكون جذريا، وتكوينها لحركة فكرية -اجتماعية، اعتمادا على مؤسسات الدولة نفسها خصوصا في قطاع التعليم. وقد استطاعت في فترة قصيرة أن تصبح عنصرا محوريا في النسيج الاجتماعي السعودي

وقبل أن أدخل في الحديث عن الصحوة ، أود أن اشير الى حالة الجمود والتبلد الذي أصاب المشهد الفكري والذي أعاق النمو الحضاري للمجتمع، بل لعل السعودية تعدّ البلد الوحيد في العالم، الذي لا زالت صراعات التسعينات تتكرر فيه بذات زخمها. ولفترة طويلة ارتضى الكثير من أطراف الصراع من النخب الدينية والتحديثية اعادة تمثيل أدوارهم وعدم مراوحة أماكنهم أو تطوير رؤاهم في تناول ذات القضايا والمسائل، خاصة مسائل المرأة والتعليم والحريات وغيرها. وان جزمنا بحدوث نقلة أو تطور في طرح بعض هذه القضايا، كتحول النقاش حول قيادة المرأة للسيارة من منظور ديني يقضي بتحريمه الى منظور اجتماعي يحذر من آثاره السلبية على المجتمع، الا أن مثل هذه التغيرات في الطرح تظل بسيطة بحيث تقصر عن حسم الجدل، ناهيك عن تهيئة الوعي المجتمعي الكافي الذي يحرر القضية من تداولها بأدوات الصراع القديمة ذاتها

واذا كان الفكر السلفي التقليدي قد شهد عدة محاولات وقراءات نقدية جادة من داخل التيار نفسه، كان أبرزها على يد ما سمي بالخطاب الاصلاحي أو التنويري والذي تصدى له باحثون شرعيون على قدر من التمكن من أمثال عبدالله المالكي ورائد السمهوري وسليمان الضحيان، فانني أستغرب أن المشروع الفكري الليبرالي لم يحظى بفرصة مماثلة، مع أنه الاشد حاجة للاصلاح خاصة وهو يحمل بذور هدمه بداخله

وعودة الى تيار الصحوة، فقد اعتدنا أن يلقي المثقفون والمتصدرون للاعلام الليبرالي باللائمة على الصحوة حين الحديث عن الظواهر السلبية المعيقة للحداثة أو المستغرقة في التخلف. والحقيقة ان هذا الاتهام يعدّ جائرا حين يطلق على عواهنه بهذا الشكل، وهو محاولة تبريرية لتحرير المثقف من تحمل مسؤولية التنوير الاجتماعي. وتظل الحقيقة المرّة التي يحاول هذا المثقف الهروب من مواجهتها عبر اتهامه للصحوة بالتخلف، هي فشله في تقديم وصناعة خطاب تنويري تطويري مميز لا يصادم قيم المجتمع. بغض النظر عن موقفي الشخصي من الصحوة، أعترف بأنها نجحت في تقديم مشروع فكري أعمق واقوى تأثيرا على المجتمع من أي خطاب محلي أو خارجي، وكان لها ايجابياتها في عدد من النواحي الذي لا يحب الاعلام الليبرالي التطرق اليها منها:

أ- التعامل مع العادات والتقاليد

برغم تضخيم المثقف الليبرالي لحكاية "خلط  العادات والتقاليد بالاسلام"، وتلبيس هذه التهمة للصحوة كوسيلة لتمرير أطروحاته وأفكاره بذريعة أنه يسعى "لفصل العادات والتقاليد عن الاسلام الحقيقي". الا أنه لا يمكننا انكار حقيقة أن التيار المحافظ وقف في بداياته ضد العادات والأعراف وحاربها بضراوة حين كانت تعارض مفهومه للاسلام، وعمل على ازالتها ونجح في كثير من الجوانب. فنجد مثلا أنه قضى على عادات مجتمعية انتشرت في بعض مناطق المملكة اتسمت بالتساهل سواءً في حجاب المرأة أو اختلاطها بالرجال من اقاربها، وعمل التيار الديني على فرض الانفصال بين الرجل والمرأة، حتى تأثرت تصاميم المنازل والمباني والدوائر الحكومية بهذا الفصل

لا أذكر هذا التغير هنا بصفته ايجابي أو سلبي، بل للدلالة على أن الصحوة لم تترضخ للعادات والتقاليد وواجهتها حين اضطرت لذلك واستطاعت أن تصححها. الغريب أنك تجد المثقف الليبرالي تارةً يتباكى على هذه العادات ويصف الصحوة بتشويه المجتمع، وتارةً أخرى يرميها بخلط الاسلام بالعادات والتقاليد

ب - مواجهة انحراف الشباب

أنتجت الطفرة في الثمانينات حالة من البذخ والرفاهية، كان أحد أكبر سلبياتها التي ظهر فورا على المجتمع هو انحراف الشباب نتيجة توفر المال وأوقات الفراغ التي تم استغلالها بشكل سلبي. وكان للصحوة دور فعال في الأخذ بيد هؤلاء الشباب وتوجيههم واعادة تأهيلهم عبر محاضنها وملتقياتها، بل ان الصحوة سهلت اعادة دمج هؤلاء في المجتمع ووفرت لهم الوظائف فانخرط بعضهم في الهيئة وآخرون في مجال الوعظ، وساهمت في تقبل المجتمع لهم رغم ماضيهم. هذا الجهد الصحوي يستحق الشكر اذ وفرت على الدولة الكثير من الأموال التي كانت ستصرف لاعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، كما حمت المجتمع من آثارهم السلبية

جـ- المرأة

ورغم أن المرأة اكبر قضية تعاير بها الصحوة اذ يرى البعض أنها ساهمت في شل حركة المرأة وحبسها، الا ان التيار الديني الصحوي قدّم في الحقيقة في بداياته رؤية حضارية لدور المرأة في المجتمع. فلم تعارض الصحوة في الأصل عمل المرأة خارج المنزل كما يردد المثقفون لسنوات حتى تم ترسيخه في وعينا وحتى انطلى الكلام على التيار الديني نفسه الذي بات مؤخرا يردد عبارات يفهم منها رفضه لعمل المرأة دونما حاجة وتفضيل بقاءها في البيت

يشير الكاتب عبدالعزيز الخضر في كتابه "السعودية: سيرة دولة ومجتمع" الى دور الشيخ سلمان العودة الريادي في الثمانينات والتسعينات في تشجيع عمل المرأة حتى أنه قال في أحد خطبه المسجلة يدافع فيها عن موقفه من عمل المرأة: "اننا حين ننصح المتدينات بترك الدراسة أو ترك مجالات العمل فاننا نسمح لفئات أخرى بأن تنمو وتتوغل داخل المجتمع ونضع سداً منيعاً أمام العنصر الوحيد الذي يمكن أن يساهم في تحجيم الشر والفساد"

والحقيقة أن المجتمع السعودي بطبيعته المحافظة في مرحلة ما قبل الصحوة كان ضد عمل المرأة خارج بيتها، لكن تيار الصحوة كان موقفه ايجابيا وغيّر نظرة المجتمع وشجع على عملها في المجالات المعزولة عن الاختلاط، ومشكلة الصحوة مع عمل المرأة لم تكن موقف معارض كما يطرحها التيار الليبرالي بقدر ما كانت مشكلتها في بيئة عمل المرأة وخلوها من الاختلاط

من الظريف أيضا - كما يذكر الكاتب عبدالعزيز الخضر في كتابه - ان الصحوة اقرّت رؤية المخطوبة في خطوة تعتبر تقدمية اذ كان العرف الاجتماعي يقتضي عدم رؤية المخطوبة أبدا

*                  *                *                

أخيرا أقول بأنني أكتب هذه التدوينة لنفسي أولا قبل غيري، ثم لأبناء جيلي (التسعينات وأواخر الثمانينات) ممن تفتح وعيهم بعد بدء تراجع ملامح الصحوة وضعف خطابها خصوصا مع اعتقالات التسعينات لبعض رموزها، ثم ما تلاها من هجمات سبتمبر وبداية ما سمي بالحرب على الارهاب. كل هذه الأحداث صاغت تصوراتنا عن الصحوة -خاصة وأننا لم نعاصرها وهي في أوج شعبيتها- الى أحد اتجاهين: اما المدح والتمجيد المبالغ به واعتبارها طريقة الاسلام الصحيحة ونهج الفرقة الناجية، أو الذمّ الجائر الذي يخلو من أي انصاف أو موضوعية. التصالح مع فترة الصحوة - التي تعد أحد أبرز مراحل التجربة الفكرية السعودية - بكل سلبياتها وايجابياتها سيساعدنا لتفكيك عقلية الصراعات في المجتمع، وتجاوز لغة الاستقطاب الحادة بين التيارات، وادارة خلافاتنا الفكرية بقدر أكبر من النضج والعقلانية





السبت، 27 أكتوبر 2012

قانون التحرش الجنسي .. وصراع التيارات



قبل عدة اشهر قدّم مجلس الشورى السعودي مسودة مشروع لايجاد نظام يحمي المرأة من اضرار التحرش الجنسي، ويقرّ بتحديد عقوبات للمتحرش تشمل الانذار والغرامات المالية الكبيرة وصولا الى الجلد والسجن. فيما بعد تم استبعاد المشروع مع ضم قضية التحرش بالمرأة الى برنامج "الحماية من الايذاء للأسرة"

وكعادة كل المواضيع التي تتعلق بالمرأة، تحول النقاش حول اقرار قانون التحرش الجنسي الى لهيب صراع التيارات المسكون بالتعصب وسوء النية والحرص على الانتصار للذوات على حساب المصلحة العامة. وان كان موقف المحافظين ورفضهم للقانون باعتباره ضمن الاجندة التغريبية للمجتمع عجيبا وغير مفهوم، فالأعجب منه استبشار الليبراليين وترحيبهم المبالغ فيه واعتبار القانون انتصارا لهم ولفكرهم. وفي هذا الجو المتأزم تضيع الحقائق وسط المبالغات التي تتجاوز حدود المنطق والعقل، والتي يلجأ اليها كل فريق لدعم موقفه.

السؤال الحقيقي الذي من المفترض أن يطرح قبل الدخول في معمعة الجدل هو: هل يوجد تحرش جنسي في السعودية؟

والاجابة هي نعم بالتأكيد، قد نتجادل حول ما اذا كانت ظاهرة أو أزمة تهدد المجتمع، وقد يتعذر الاستشهاد بنسب دقيقة كما يحدث في الدول المتقدمة لعدة أسباب منها أن معظم خطايانا في الظلام لغياب الاحصائيات الموثوقة ولجوء ضحايا التحرش في العديد من الحالات الى الصمت واحجامها عن التبليغ أو التقدم بالشكوى لأسباب في غالبها اجتماعية. ومع ذلك فلا يمكن لأحد ان يزعم "ملائكية" المجتمع أو ينفي وجود التحرش، وحتى اولئك المحافظين الذين يرفضون قانون التحرش بحجة أنه لا توجد ضرورة له، هم أنفسهم من سيحدثونك عن الذئاب البشرية وأصحاب القلوب المريضة لو انتقل النقاش للحديث عن دور الهيئة. اذاً يمكن أن نسلم بأن الطرفين يقرّان بوجود حالات التحرش الجنسي في المجتمع بكل درجاته وأنواعه.

مشكلة المعارضين للقانون من المتحفظين أنهم نظروا اليه من منطلق صراعهم الأزلي مع التيار الليبرالي، وبالتالي فهم لم يفهموا القانون من حيث دوافعه ونتائجه، بل تعاملوا معه وفهموه على أنه مشروع تغريبي وأنه يهدف لتشريع الاختلاط وتقنينه كما عبّرت الدكتورة نورة السعد في رسالتها الى مجلس الشورى التي تطالبهم فيه بالغاء نقاش القانون وعدم اقراره. واذا تفهمنا أسباب اعتراض المحافظين ومخاوفهم، فاننا لم نفهم بعد الحل البديل الذي يقدّمونه للحدّ من حالات التحرش، بدلا من تركها تسبح في العموميات وتخضع لمزاج القاضي واجتهاداته. فلم تعد عبارة "تطبيق الشريعة" المستهلكة الفضفاضة تفي بالغرض، خصوصا اذا علمنا أن مفهومهم لتطبيق الشريعة هو منع المرأة من الاختلاط في بيئات العمل وحبسها في البيت كي لا تتعرض للتحرش، في تجاهل تام لحقيقة أن التحرش بات موجودا في كل مكان، في الاسواق والمستشفيات والشوارع وفي الحرم، بل حتى بعض البيوت لم تخلو من حالات تحرش المحارم. وبالتالي يتناسى هؤلاء أن غاية تطبيق الشريعة هو تحقيق المصلحة التي تساير حياة الناس لاالتصادم مع بديهيات واقعهم ومتغيراته، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار سنّ القوانين "الوضعية " التي تحمي المجتمع ضد المصلحة العامة.

وبالنظر من زاوية أخرى نجد أن فرض قوانين وأنظمة مدنية واضحة تحكم المجتمع وتردع المتحرش لن يتوقف تأثيرها على تعزيز الأمان وتهذيب التعاملات بين الناس فقط، بل سيمنح المرأة حق التعبير عن كيانها كفرد مكلف ومسؤول ومحاسبة كل من يتعدى عليها بالمضايقات أو الانتهاكات، وسيلغي تدريجيا ذهنية لوم الضحية السائدة في المجتمع والتي تفترض أن من تتعرض للتحرش تستحقه لأنها خرجت من منزلها أو لأنها لم تلتزم بالحجاب الكامل الخ. مما يعني أن السبب الحقيقي وراء تذمر المحافظين من سنّ مثل هذه القوانين، هي معرفتهم بأنها ستفقدهم مبررات تسلطهم على خلق الله بدعوى حماية الفضيلة، وتنهي ثنائية الذئب البشري/الفريسة التي تكّسب منها الخطاب الديني المحافظ ردحاً من الزمن، خصوصا حين يظهر تهافتها بالتزام الشاب السعودي بذات القوانين التي يلتزم بها حين يكون في دبي أو لندن والتي تجعله يخشى ان يرفع بصره لأي امرأة  تمر أمامه ناهيك عن التلفظ عليها خوفا من أن تتهمه بالتحرش بها وتعرّضه لعقوبات هو في غنى عنها

بقي أن أشير الى أن قانون التحرش الجنسي لن يكون الحل الجذري لسوء الخلق ولن يساعد في تغيير النفوس القبيحة، تماماً بنفس الطريقة التي لم يكن بها الوعظ الديني والوجداني وحده كفيلا بتنظيم العلاقات بين الناس، والمطالبة باتخاذ التدابير القانونية لا يعني بالضرورة الدعوة للتخلي عن الأساليب التي تهدف لتقويم سلوك الفرد سواءً بالتنشئة الدينية أو الوعظ الأخلاقي وغيره

:روابط أخرى 

http://whymecampn.blogspot.com/2012/10/re-publish.html

http://voicesofyoungsaudisoftheng.blogspot.com/2012/10/blog-post.html?utm_source=twitterfeed&utm_medium=twitter